فصل: تفسير الآيات (49- 56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{وما جعلْنا أصحاب النار} أي المدبرين لأمرِها القائمين بتعذيبِ أهلِها {إِلاّ ملائكة} ليخالفُوا جنس المعذبين فلا يرِقّوا لهُم ولا يستروحُوا إليهمْ ولأنهُم أقْوى الخلقِ وأقومُهُم بحقِّ الله عز وجل وبالغضبِ له تعالى وأشدُّهم بأسا. عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لأحدِهم مثلُ قوةِ الثقلينِ يسوقُ أحدُهم الأمة وعلى رقبتِه جبلٌ فيرمِي بهم في النارِ ويرمِي بالجبلِ عليهم» ورُوي أنه لما نزل عليها تسعة عشر قال أبو جهلٍ لقريشٍ أيعجزُ كلُّ عشرةٍ منكم أنْ يبطشُوا برجلٍ منُهم فقال أبو الاشدِّ بنُ أسيدِ بْنِ كِلْدة الجُمحيُّ وكان شديد البطشِ أنا أكفيكُم سبعة عشر فاكفونِي أنتُم اثنينِ فنزلتْ أيْ ما جعلناهُم رجالا منْ جنسِكم {وما جعلْنا عِدّتهُمْ إِلاّ فِتْنة لّلّذِين كفرُواْ} أي ما جعلنا عددهُم إلا العدد الذي تسبب لافتتانِهم وهو التسعة عشر فعبر بالأثرِ عن المؤثر تنبيها على التلازم بينهما وليس المرادُ مجرد جعلِ عددِهم ذلك العدد المعين في نفسِ الأمرِ بلْ جعله في القرآن أيضا كذلك وهو الحكمُ بأنّ عليها تسعة عشر، إذْ بذلك يتحققُ افتتانُهم باستقلالِهم له واستبعادِهم لتولي هذا العددِ القليلِ لتعذيبِ أكثر الثقلينِ واستهزائِهم بهِ حسبما ذكر وعليهِ يدورُ ما سيأتِي من استيقان أهلِ الكتابِ وازديادِ المؤمنين إيمانا قالوا المخصصُ لهذا العددِ أنّ اختلاف النفوسِ البشريةِ في النظرِ والعملِ بسببِ القُوى الحيوانيةِ الاثنتي عشرة والطبيعيةِ السبعِ أو أن جهنم سبعُ دركات ستٌ منها لأصنافِ الكفرةِ كلُّ صنفٍ يعذبُ بتركِ الاعتقادِ والاقرار والعملِ أنواعا من العذابِ يناسبُها وعلى كلِّ نوعٍ ملكٌ أو صنفٌ أو صفٌّ يتولاهُ، وواحدةٌ لعُصاةِ الأمةِ يعذبون فيها بتركِ العملِ نوعا يناسبُه ويتولاّه واحدٌ أو أنّ الساعاتِ أربعٌ وعشرون خمسةٌ منها مصروفةٌ للصلواتِ الخمسِ. فيبقى تسعة عشر قد تصرفُ إلى ما يؤاخذُ به بأنواعِ العذابِ يتولاّها الزبانيةُ {لِيسْتيْقِن الذين أوتُواْ الكتاب} متعلقٌ بالجعل على المعْنى المذكورِ أيْ ليكتسبُوا اليقين بنبوتِه عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ وصدقِ القرآن لما شاهدُوا ما فيه موافقا لما في كتابِهم {ويزْداد الذين ءامنُواْ إيمانا} أيْ يزدادُ إيمانُهم كيفية بما رأوا من تسليمِ أهلِ الكتابِ وتصديقِهم أنه كذلك أو كمية بانضمامِ إيمانِهم بذلك إلى إيمانِهم بسائرِ ما أنزل {ولا يرْتاب الذين أوتُواْ الكتاب والمؤمنون} تأكيدٌ لما قبله من الاستيقانِ وإزديادِ الإيمانِ ونفيٌ لما قد يعترِي المستيقن من شبهةٍ ما وإنما لم يُنظمِ المؤمنون في سلكِ أهلِ الكتابِ في نفي الارتيابِ حيث لم يقل ولا يرتابوا للتنبيه على تباين النفيين حالا فإن انتفاء الارتياب من أهل الكتابِ مقارنٌ لما ينافيهِ من الجحود، ومن المؤمنين مقارنٌ لما يقتضيه من الإيمان وكم بينهما والتعبيرُ عنهم باسم الفاعلِ بعد ذكرِهم بالموصول والصلةِ الفعليةِ المنبئةِ عن الحدوث للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازديادِه ورسوخِهم في ذلك {ولِيقول الذين في قُلوبِهِم مّرضٌ} شكٌّ أو نفاقٌ فيكونُ إِخبارا بما سيكونُ في المدينةِ بعد الهجرةِ {والكافرون} المُصرّون على التكذيبِ {ماذا أراد الله بهذا مثلا} أيْ أيُّ شيءٍ أراد بهذا العددِ المستغربِ استغراب المثلِ وقيل: لما استبعدُوه حسبُوا أنه مثلٌ مضروِبٌ وإفرادُ قولهم هذا بالتعليلِ مع كونِه من باب فتنتِهم للإشعارِ باستقلالِه في الشناعةِ {كذلِك يُضِلُّ الله من يشاء} ذلك إشارةٌ إلى ما قبلهُ من معْنى الإضلالِ والهدايةِ ومحلُّ الكافِ في الأصلِ النصبُ على أنها صفةٌ محذوفٍ وأصلُ التقديرِ يضلُّ الله منْ يشاءُ {ويهْدِى من يشاء} إضلالا وهداية كائنينِ مثل ما ذكر من الإضلالِ والهدايةِ فحذف المصدرُ وأقيم وصفُه مقامه ثم قدم على الفعلِ لإفادةِ القصرِ فصار النظمُ مثلُ ذلك الإضلالِ وتلك الهدايةِ يضلُّ الله منْ يشاءُ إضلاله لصرفِ اختيارِه إلى جانبِ الضلالِ عند مشاهدتِه لآيات الله الناطقة بالحق ويهدي من يشاء هدايته لصرف اختياره عن مشاهدة تلك الآياتِ إلى جانبِ الهُدى لا إضلالا وهداية أدنى منهما.
{وما يعْلمُ جُنُود ربّك} أيْ جموع خلقهِ التي من جُمْلتِها الملائكةُ المذكورون {إِلاّ هو} إِذْ لا سبيل لأحدٍ إلى حصر الممكناتِ والوقوفِ على حقائِقها وصفاتِها ولو إجمالا فضلا عن الاطلاع على تفاصيل أحوالِها من كمٍ وكيفٍ ونسبةٍ {وما هِى} أي سقرُ أو عدةُ خزنتِها والآياتُ الناطقةُ بأحوالِها {إِلاّ ذكرى لِلْبشرِ} إلا تذكرة لهم.
{كلّا والْقمرِ (32)}
{كلاّ} ردعٌ لمن أنكرها أو إنكارٌ ونفيٌ لأن يكون لهم تذكرٌ {والقمر واليل إِذْ أدْبر} وقرئ إذْ دبر بمعنى أدبر كقبِل بمعْنى أقْبل ومنْهُ قولهم صارُوا كأمسِ الدابرِ قيل: هو من دبِر الليلُ النهار إذا خلفهُ {والصبح إِذا أسْفر} أي أضاء وانكشف {إِنّها لإِحْدى الكبر} جوابٌ للقسمِ أو تعليلٌ لكلاّ والقسمُ معترضٌ للتوكيدِ، والكُبر جمعُ الكُبْرى جعلتْ ألفُ التأنيثِ كتائِها فكما جُمعتْ فُعْلة على فُعلٍ جُمعتْ فُعْلى عليها ونظيرُها القواصعُ في جمعِ القاصِعاءِ كأنها جمعُ قاصعةٍ أي لإِحْدى البلايا أو لإِحْدى الدّواهِي الكُبر على معْنى أنّ البلايا الكبر أو الدواهِي الكبر كثيرةٌ وهذهِ واحدةٌ في العظمِ لانظيرة لها.
{نذِيرا لّلْبشرِ} تمييزٌ لإحدى الكبرِ إنذارا أو حالٌ مما دلتْ عليهِ الجملة أي كبرتْ منذرة وقرئ {نذيرٌ} بالرفعِ على أنه خبرٌ بعد خبرِ لأنّ أو لمبتدأٍ محذوفٍ {لِمن شاء مِنكُمْ أن يتقدّم أو يتأخّر} بدلٌ من {للبشر} أي نذيرا لمن شاء منكم أن يسبق إلى الخير فيهديه الله تعالى أو لم يشأْ ذلك فيضلّه، وقيل: {لمن شاء} خبرٌ و{أنْ يتقدم أو يتأخر} مبتدأٌ فيكونُ في معنى قوله تعالى: {فمنْ شاء فليؤمنْ ومنْ شاء فليكفرُ} {كُلُّ نفْسٍ بِما كسبتْ رهِينةٌ} مرهونةٌ عند الله تعالى بكسبِها والرهينةُ اسمٌ بمعْنى الرهنِ كالشتيمةِ بمعنى الشتمِ لا صفةٌ وإلا لقيل رهينٌ لأن فعيلا بمعنى مفعولٍ لا يدخلُه التاءُ {إِلاّ أصحاب اليمين} فإنهم فاكُّون رقابهم بما أحسنُوا من أعمالِهم كما يفكُّ الراهنُ رهنهُ بأداءِ الدينِ وقيل: هم الملائكةُ وقيل: الأطفالُ وقيل: هم الذين سبقتْ لهم من الله تعالى الحُسنى وقيل: الذين كانُوا عن يمينِ آدمٍ عليه السلام يوم الميثاقِ وقيل: الذين يُعطون كتُبهم بأيمانِهم {فِى جنات} لا يُكتنه كُنُهها ولا يُدرك وصفُها وهو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ والجملة استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأ مما قبلُه من استثناء {أصحابِ اليمين} كأنه قيل: ما بالُهم فقيل هم {في جناتٍ} وقيل: حالٌ من {أصحاب اليمين} وقيل: من ضميرهم في قوله تعالى: {يتساءلون} وقيل: ظرفٌ للتساؤلِ وليس المرادُ بتساؤلهم أنْ يسأل بعضُهم بعضا على أنْ يكون كلُّ واحدٍ منهم سائلا ومسؤولا معا بلْ صدورُ السؤالِ عنْهم مجردا عن وقوعه عليهم فإن صيغة التفاعلِ وإن وضعتْ في الأصل للدلالةِ على صدورِ الفعلِ عن المتعددِ ووقوعهِ عليه معا بحيثُ يصير كلُّ واحدٍ من ذلك فاعلا ومفعولا معا كما في قولك تراءى القومُ أيْ رأى كلُّ واحدٍ منهم الآخر لكنها قد تجردُ عن المعْنى الثانِي ويقصد بها الدلالةُ على الأولِ فقط فيذكرُ للفعلِ حينئذٍ مفعولُ كما في قولك تراءوا الهلال فمعنى يتساءلون {عنِ المجرمين} يسألونُهم عن أحوالِهم وقد حُذف المسؤولُ لكونه عين المسؤولِ عنه وقوله تعالى: {ما سلككُمْ في سقر} مقدرٌ بقول هو حالٌ من فاعل {يتساءلون} أيْ يسألونهم قائلين أيُّ شيءٍ أدخلكُم فيها فتأملْ ودعْ عنك ما تكلف فيهِ المتكلفون.
{قالواْ} أي المجرمون مجيبين للسائلين {لمْ نكُ مِن المصلين} للصلواتِ الواجبةِ {ولمْ نكُ نُطْعِمُ المسكين} على معْنى استمرارِ نفي الإطعامِ لا على نفي استمرارِ الإطعامِ كما مرّ مِرارا وفيه دلالةٌ على أنّ الكفار مخاطبون بالفروعِ في حقِّ المؤاخذذةِ {وكُنّا نخُوضُ مع الخائضين} أي نشرعُ في الباطل مع الشارعين فيه {وكُنّا نُكذّبُ بِيوْمِ الدين} أي بيوم الجزاءِ أضافُوه إلى الجزاء مع أن فيه من الدواهِي والأهوال ما لا غاية لهُ لأنه أدهاها وأهولُها وأنهم ملابُسوه وقد مضتْ بقيةُ الدواهِي وتأخيرُ جنايتِهم هذهِ مع كونِها أعظم من الكُلِّ لتفخيمِها كأنهم قالوا وكنا بعد ذلك كلِّه مكذبين بيومِ الدينِ ولبيانِ كونِ تكذيبِهم به مقارنا لسائرِ جناياتِهم المعدودةِ مستمرا إلى آخرِ عمرِهم حسبما نطق به قولهم {حتى أتانا اليقين} أي الموتُ ومقدماتُه {فما تنفعُهُمْ شفاعة الشافعين} لو شفعُوا لهم جميعا. اهـ.

.تفسير الآيات (49- 56):

قوله تعالى: {فما لهُمْ عنِ التّذْكِرةِ مُعْرِضِين (49) كأنّهُمْ حُمُرٌ مُسْتنْفِرةٌ (50) فرّتْ مِنْ قسْورةٍ (51) بلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أنْ يُؤْتى صُحُفا مُنشّرة (52) كلّا بلْ لا يخافُون الْآخِرة (53) كلّا إِنّهُ تذْكِرةٌ (54) فمنْ شاء ذكرهُ (55) وما يذْكُرُون إِلّا أنْ يشاء اللّهُ هو أهْلُ التّقْوى وأهْلُ الْمغْفِرةِ (56)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا الإخبار بنعيم المنعم وعذاب المعذب موجبا للتذكر، سبب عنه الإنكار عليهم فقال: {فما} أي أيّ شيء يكون {لهم} حال كونهم {عن التذكرة} أي التذكر العظيم خاصة بالقرآن خصوصا وبغيره عموما {معرضين} وعلى الباطل وحده مقبلين، وذلك من أعجب العجب، لأن طبع الإنسان إذا حذر من شيء حذره أشد الحذر كما لو حذر المسافر من سبع في طريقه فإنه يبذل جهده في الحيدة عنه والحذر منه وإن كان المخبر كاذبا، فكيف يعرضون عن هذا المحذور الأعظم والمخبر أصدق الصادقين، فإعراضهم هذا دليل على اختلال عقولهم واختبال فهومهم، وزاد ذلك عجبا شدة نفارهم حتى {كأنهم} في إعراضهم عن التذكرة من شدة النفرة والإسراع في الفرة {حمر} أي من حمر الوحش وهي أشد الأشياء نفارا، ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل بسرعة السير بالحمر في عدوها إذا وردت ماء فأحست عليه ما يريبها، وفي تشبيه الكفرة بالحمر ولاسيما في هذه الحالة مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بين، وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل وعدم التثبت {مستنفرة} أي موجدة للنفار بغاية الرغبة فيه حتى كأنها تطلبه من أنفسها لأنه من شأنها وطبعها- هذا على قراءة الجماعة، وقرأ أهل المدينة والشام بالفتح بمعنى أنه نفرها منفر.
ولما كان ذلك لا يكون إلا لسبب عظيم يتشوف إليه، استأنف قوله: {فرت من قسورة} أي أسد شديد القسر عظيم القهر فنشبت في حبائل سقر أو صيادين.
ولما كان الجواب قطعا: لا شيء لهم في إعراضهم هذا، أضرب عنه بقوله: {بل يريد} أي على دعواهم وبزعمهم {كل امرئ منهم} أي المعرضين، مع ادعائه الكمال في المروءة {أن يؤتى} أي من السماء بناه للمفعول لأن مرادهم معروف {صحفا} أي قراطيس مكتوبة {منشرة} أي كثيرة جدا وكل واحد منها منشور لا مانع من قراءته وأخذه، وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لن نتبعك حتى تأتي كلاّ منا بكتاب من السماء فيه: من الله إلى فلان اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم.
ولما كان ذلك إنما هو تعنت، لا أنه على حقيقته قال: {كلا} أي ليس لهم غرض في الاتباع بوجه من الوجوه لا بهذا الشرط ولا بغيره: {بل} علتهم الحقيقية في هذا الإعراض أنهم {لا يخافون} أي في زمن من الأزمان {الآخرة} ولما كان فعلهم هذا فعل من يعتقد في القرآن أنه ليس بوعظ صحيح يستحق أن يتبع، قال رادعا لهم عن هذا اللازم: {كلا} أي ليس الأمر قطعا كما تزعمون من أن هذا القرآن لا يستحق الإقبال، ثم أستأنف قوله مؤكدا لأجل ما تضمن هذا الفعل من إنكارهم: {إنه} أي القرآن {تذكرة} أي موضع وعظ عظيم يوجب إيجابا عظيما اتباعه وعدم الانفكاك عنه بوجه فليس لأحد أن يقول: أنا معذور لأني لم أجد مذكرا ولا معرفا فإن عنده أعظم مذكر وأشرف مفرق.
ولما كان في غاية السهولة والحلأوة لكل من عرفه بوجه من الوجوه، وكان الله سبحانه قد خلق القوى والقدر، وجعل للعبد اختيارا، قال مسببا عن كونه موضعا للتذكر: {فمن شاء} أي أن يذكره {ذكره} فثبت في صدره وعلم معناه وتخلق به، فليس أحد يقدر أن يقول: إنه صعب التركيب عظيم التعقيد عسر الفهم، يحتاج في استخراج المعاني منه إلى علاج كبير وممارسة طويلة فأنا معذور في الوقوف عنه، بل هو كالبحر الفرات، من شاء اغترف، لأنه خوطب به أمة أمية لا ممارسة لها لشيء من العلوم، فسهل في لفظه ومعناه غاية السهولة مع أنه لا يوصل إلى قراره ولا يطمع في مناظرة أثر من آثاره، بل كلما زاد الإنسان فيه تأملا زاده معاني.
ولما كان هذا ربما أوهم أن للعبد استقلالا بالتصرف، قال معلما بأن هذا إنما هو كناية عما له من السهولة والحلأوة والعذوبة التي توجب عشقه لكل ذي لب منبها على ترك الإعجاب وإظهار الذل والالتجاء والافتقار إلى العزيز الغفار في طلب التوفيق لأقوم طريق: {وما يذكرون} أي ولا واحد منكم هذا القرآن ولا غيره في وقت من الأوقات {إلا أن يشاء الله} أي الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه، وهو صريح في أن فعل العبد من المشيئة، وما ينشأ عنها إنما هو بمشيئة الله.
ولما ثبت أنه سبحانه الفعال لما يريد وأنه لا فعل لغيره بدون مشيئته، وكان من المعلوم أن أكثر أفعال العباد مما لا يرضيه، فلولا حلمه ما قدروا على ذلك، وكان عفو القادر مستحسنا، قال مبينا لأنه أهل للرهبة والرغبة: {هو} أي وحده {أهل التقوى} أي أن يتقوه عباده ويحذروا غضبه بكل ما تصل قدرتهم إليه لما له من الجلال والعظمة والقهر، ويجوز أن يكون الضمير للمتقي {وأهل المغفرة} أي لأن يطلب غفرانه للذنوب لاسيما إذا اتقاه المذنب لأن له الجمال واللطف وهو قادر ولا قدرة لغيره ولا ينفعه شيء ولا يضره شيء، فهو الحقيق بأن يجعل موضع الإنذار الذي أمر به أول السورة البشارة، ويوفق عباده لتكبيره وهجران الرجز، وكذا فعل سبحانه بقوم هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني في الأوسط والحاكم وأبو يعلى والبغوي والبزار عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قرأ هذه الآية ثم قال: يقول الله: أنا أهل أن أتقي، فمن اتقى أن يشرك بي غيري فأن أهل أن أغفر له» وقال الترمذي وابن عدي والطبراني: تفرد به سهل بن أبي حزم القطعي، فقد رجع آخر السورة على أولها، وانطبق مفصلها على موصلها، بضم البشارة إلى النذارة، وصار كأنه قيل: أنذر العاصي فإنه أهل لأن يرجع إلى طاعاته، فيكون سبحانه أهلا لأن يعود عليه بستر زلاته. اهـ.